(1) عدم التسرع في التخطئة :
وقد حدثت لعمر ـ رضي الله عنه ـ قصة رواها بنفسه فقال : سمعت
هشام بن حكيم بن حزام يقراً سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقراً على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : كذبت ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت ، فانطلقت : به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله اقرأ يا هشام ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت ، ثم قال : اقرأ يا عمر ، فقرأت القراءة التي أقر أني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ماتيسر منه.
ومن الفوائد التربوية في القصة مايلي:
- أمر كل واحد منهما أن يقرأ أمام الآخر مع تصويبه أبلغ في تقرير صوابهما وعدم خطأ أي منهما
- أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بإطلاق هشام بقوله
أرسله يا عمر) فيه تهيئة الخصمين للاستماع وهما في حال الهدوء وفيه إشارة إلى استعجال عمر رضي الله عنه .
- على طالب العلم أن لا يستعجل بتخطئة من حكى قولا يخالف ما يعرفه إلا بعد التثبت فربما يكون ذلك القول قولا معتبراً م أقوال أهل العلم .
ومما يتعلق بهذا الموضوع أيضاً : عدم التسرع في العقوبة وفي القصة التالية شاهد :
-روى النسائي رحمة الله عن عباد بن شرجيل رضي الله عنه قال : قدمت مع عمومتي المدينة ، فدخلت حائطاً من حيطانها ، فقركت من سنبلة فجاء صاحب الحائط فأخذ كسائي وضربني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعدي عليه ،فأرسل إلى الرجل فجاءوا به فقال : ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول الله إنه دخل حائطي فأخذ من سنبلة ففركه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما علمته إذ كان جاهلاً ولا أطعمته إذ كان جائعاً اردد عليه كساءه وأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوسق أو نصف وسق .
-يستفاد من هذه القصة أن ظروف المخطئ أو المتعدى يوجه إلى الطريقة السليمة في التعامل معه .
وكذلك يلا حظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقب صاحب البستان لأنه صاحب حق وإنما خطأه في أسلوبه ونبهه بأن تصرفه مع من يجهل لم يكن بالتصرف السليم في مثل ذلك الموقف ثم أرشده إلى التصرف الصحيح وأمره برد ما أخذه من ثياب الجائع .
(1) الهدوء في التعامل مع المخطئ :
وخصوصاً عندما يؤدي القيام عليه والاشتداد في نهيه إلى توسيع نطاق المفسدة ويمكن أن نتبين ذلك من خلال مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لخطأ الأعرابي الذي بال في المسجد ، كما جاء عن أنس بن مالك قال : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مه مه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عزوجل والصلاة وقراءة القرآن ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه.
لقد كانت القاعدة التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الخطأ : التيسير وعدم التعسير ، فقد جاء في رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه وأهر يقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين .
لقد تحمس الصحابة رضوان الله عليهم لإنكار المنكر حرصاً على طهارة مسجدهم وروايات الحديث تدل على ذلك ، ومنها :
(( فصاح به الناس )) – (( فثار إليه الناس )) – (( فزجره الناس )) – (( فأسرع إليه )) وفي رواية ـ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه .
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في عواقب الأمور وأن الأمر يدور بين احتمالين إما أن يمنع الرجل وإما أن يترك . وأنه لو منع فإما أن ينقطع البول فعلا فيحصل على الرجل ضرر من احتباس بوله ، وإما أن لا ينقطع ويتحرك خوفاً منهم فيزداد انتشار النجاسة في المسجد أو على جسد الرجل وثيابه ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم بثاقب نظره أن ترك الرجل يبول هو أدنى المفسدة ، يمكن تداركها بالتطهير ، ولذلك قال لأصحابه : دعوه لا تزرموه أي لا تجسوه . فأمرهم بالكف لأجل المصلحة الراجحة وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما .
وقد جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم سأل الرجل عن سبب فعله ، فقد روى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فبايعه في المسجد ثم انصرف ، فقام ففحج ثم بال ، فهم الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقطعوا على الرجل بوله ، ثم قال : ألست بمسلم ؟ قال : بلى ، قال : ما حملك على أن بلت في مسجدنا ؟ قال : والذي بعثك بالحق ما ظننته إلا صعيداً من الصعدات فبليت فيه . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصب على بوله.
إن هذا الأسلوب الحكيم في المعالجة ققد أحدث أثراً بالغاً في نفس ذلك الأعرابي يتضح من عبارته كما جاء في رواية ابن ماجه : عن أبي هريرة قال : دخل أعرابي المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقال : اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد معنا ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لقد احتظرت واسعا ، ثم ولى حتى إذا كان في ناحية المسجد فشج ( فرج ما بين رجليه ) يبول ، فقال الأعرابي بعد أن فقه فقام إلي بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب فقال : إن هذا المسجد لا يبال فيه ، وإنمابني لذكر الله وللصلاة ، ثم أمر بسجل من ماء فافرع على بوله .
وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالي فوائد في شرح حديث الأعرابي منها :
- الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا سيما إن كان ممن يحتاج إلى استئلافه .
- وفيه أن الاحتراز من النجاسة كان مقرراً في نفوس الصحابة ولهذا بادروا إلى الإنكار بحضرته صلى الله عليه وسلم قبل استئذانه ولما تقرر عندهم أيضاً من طلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصب الماء .